الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ فِي الْمُبَالَغَةِ مِنْ التَّقْلِيلِ فِي الطَّعَامِ . اعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ بَالَغَ فِي تَقْلِيلِ الْغِذَاءِ فَأَضَرَّ بِبَدَنِهِ أَوْ قَصَّرَ عَنْ فِعْلِ وَاجِبٍ لِحَقِّ اللَّهِ أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ كَالتَّكَسُّبِ لِمَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ حُرِّمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ , وَإِلَّا يَضُرُّ بِبَدَنِهِ وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهُ وَلَا قَصَّرَ عَنْ فِعْلِ وَاجِبٍ كُرِهَ لَهُ إنْ خَرَجَ مِنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ . وَرَوَى الْخِلَالُ فِي جَامِعِهِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه أَنَّهُ قِيلَ لَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُونَ مِنْ طَعَامِهِمْ قَالَ: مَا يُعْجِبُنِي سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ يَقُولُ: فَعَلَ قَوْمٌ هَكَذَا فَقَطَعَهُمْ عَنْ الْفَرْضِ انْتَهَى , وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا مَا لَمْ يُخَالِطْهُ إسْرَافٌ وَلَا مَخِيلَةٌ , رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ . وَفِي الْحَدِيثِ " هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ " وَهُمْ الْمُبَالِغُونَ فِي الْأُمُورِ . وَمِنْ التَّنَطُّعِ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ كَاَلَّذِي يَمْتَنِعُ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ , وَالْخُبْزِ , أَوْ لُبْسِ الْكَتَّانِ , أَوْ شُرْبِ الْمَاءِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ وَيَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الزُّهْدِ الْمُسْتَحَبِّ وَذَلِكَ جَهْلٌ مِنْهُ كَمَا قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَآكُلُ اللَّحْمَ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي " فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ لَا أُفْطِرُ , وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ لَا أَنَامُ , وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ , وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا فَقَالَ: " مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَذَا , وَكَذَا لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي " . نَعَمْ التَّقْلِيلُ مِنْ الطَّعَامِ وَمِنْ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ , وَالِاقْتِصَادُ فِي ذَلِكَ مَعَ عَدَمِ الِانْهِمَاكِ فِي اللَّذَّاتِ وَالطَّرْحِ لِلتَّكَلُّفِ هُوَ الْمَطْلُوبُ الْمَحْمُودُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَالطُّيُورِ (تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) ثَبَتَ فِيمَا لَا يُحْصَى إلَّا بِكُلْفَةٍ عَنْ سَيِّدِ الْعَالَمِ صلى الله عليه وسلم أَكْلُهُ اللَّحْمَ مَطْبُوخًا وَمَشْوِيًّا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَالطُّيُورِ . , وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ جُزْءٍ الزُّبَيْدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: " أَكَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَحْمًا قَدْ شُوِيَ فَمَسَحْنَا أَيْدِيَنَا بِالْحَصْبَاءِ , ثُمَّ قُمْنَا نُصَلِّي وَلَمْ نَتَوَضَّأْ " . وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ رضي الله عنه قَالَ: " أَشْهَدُ لَكُنْت أَشْوِي لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَطْنَ الشَّاةِ , ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ " وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ لَحْمَ دَجَاجٍ . وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ , وَجَعَلَ الْفِرْدَوْسَ مَأْوَاهُ , فِي كِتَابِهِ زَادِ الْمَعَادِ , فِي هَدْيِ خَيْرِ الْعِبَادِ " أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَحْمَ الْجَزُورِ وَالضَّأْنِ وَالدَّجَاجِ وَلَحْمَ الْحُبَارَى وَلَحْمَ حِمَارِ الْوَحْشِ , وَالْأَرْنَبِ وَطَعَامَ الْبَحْرِ " قُلْت: وَكَذَا أَكَلَ لَحْمَ الْحَجَلِ . فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ , وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ " أُهْدِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَلٌ مَشْوِيٌّ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ الْخَلْقِ إلَيْك يَأْكُلْ مَعِي هَذَا الطَّيْرَ فَجَاءَ عَلِيٌّ فَأَكَلَ مَعَهُ " , وَكَذَا أَكَلَ صلى الله عليه وسلم مِنْ لَحْمِ شَاةٍ مِنْ الأروي , فَقَدْ رَوَى أَبُو إسْحَاقَ المزكي فِي أَمَالِيهِ انْتَقَى الدَّارَ قُطْنِيُّ عَنْ حَازِمٍ رضي الله عنه قَالَ: " أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَيْدٍ صدته شَاةً مِنْ الأروي فَأَهْدَيْتهَا إلَيْهِ فَقَبِلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَكَلَ مِنْهَا وَكَسَانِي عِمَامَةً عَدَنِيَّةً , وَقَالَ لِي: " مَا اسْمُك؟ " قُلْت: حَازِمٌ قَالَ: لَسْت بِحَازِمٍ وَلَكِنَّك مُطْعِمٌ " , وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مَرَوَانَ الْمَالِكِيُّ الدينوري فِي الْمُجَالَسَةِ عَنْ مَعْنِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رضي الله عنه أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَحْفَةٍ , أَوْ جَفْنَةٍ مَمْلُوءَةٍ مُخًّا فَقَالَ: يَا أَبَا ثَابِتٍ مَا هَذَا؟ فَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَقَدْ نَحَرْت وَذَبَحْت أَرْبَعِينَ ذَاتَ كَبِدٍ فَأَحْبَبْت أَنْ أُشْبِعَك مِنْ الْمُخِّ قَالَ: فَأَكَلَ وَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِخَيْرٍ قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ حَبِيبٍ: سَمِعْت أَنَّ الخيزران حَدَّثَتْ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَسَمَتْ قِسْمًا مِنْ مَالِهَا عَلَى وَلَدِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ , وَقَالَتْ أُكَافِئُ وَلَدَ سَعْدٍ عَنْ فِعْلِهِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْت: الخيزران هِيَ أُمُّ هَارُونَ الرَّشِيدِ , وَهِيَ أَمَةٌ بَرْبَرِيَّةٌ وَلَهَا خَيْرَاتٌ رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا وَأَضْعَافُ أَضْعَافِهَا تُبَيِّنُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْكُلُ الطَّيِّبَاتِ وَهَذَا بَيِّنٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ إنَّمَا النَّهْيُ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ الِانْهِمَاكِ وَاِتِّخَاذِ اللَّذَّاتِ دَيْدَنًا كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُتْرَفُونَ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم الثَّرِيدَ .
فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: " كَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الثَّرِيدَ مِنْ الْخُبْزِ وَالثَّرِيدَ مِنْ الْحَيْسِ " وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْحَلْوَى , وَالْعَسَلَ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْحَلْوَى , وَالْعَسَلَ " . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ ابْنَيْ بُسْرٍ السلميين رضي الله عنهما عَنْهُمَا قَالَا: " دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدَّمْنَا لَهُ زُبْدًا وَتَمْرًا , وَكَانَ يُحِبُّ لَحْمَ الذِّرَاعِ وَلَحْمَ الظَّهْرِ وَعُرَاقَ الشَّاةِ . رَوَى النَّسَائِيُّ كَانَ أَحَبُّ الْعُرَاقِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُرَاقَ الشَّاةِ الْجَنْبِ . الْعُرَاقُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ فَرَاءٍ فَأَلِفٍ فَقَافٍ جَمْعُ عَرْقٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ هُوَ الْعَظْمُ إذَا أُخِذَ عَنْهُ مُعْظَمُ اللَّحْمِ , وَهُوَ جَمْعٌ نَادِرٌ . وَكَانَ يُحِبُّ مِنْ الشَّاةِ مُقَدَّمَهَا . وَكَانَ أَحَبُّ الْفَوَاكِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرُّطَبَ , وَالْبِطِّيخَ رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما , وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ سِوَى سَعْدِ بْنِ عُتَيْبَةَ الْقَطَّانِ فَيَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ وَتَجْرِيمٍ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا " سَيِّدُ الْإِدَامِ فِي الدُّنْيَا , وَالْآخِرَةِ اللَّحْمُ وَسَيِّدُ الشَّرَابِ فِي الدُّنْيَا , وَالْآخِرَةِ الْمَاءُ وَسَيِّدُ الرَّيَاحِينِ فِي الدُّنْيَا , وَالْآخِرَةِ الْفَاغِيَةُ " , وَالْفَاغِيَةُ نَوْرُ الْحِنَّاءِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْخِضَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
(الثَّانِي) قَالَ فِي الْآدَابِ: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ حَرَامٌ . قَالَ الْمَشَايِخُ مِنْهُمْ: إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ أَنْ يَأْكُلَ فَوْقَ الشِّبَعِ لِيَتَقَوَّى لِصَوْمِ الْغَدِ . الثَّانِي: إذَا نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ , وَقَدْ تَنَاهَى أَكْلُهُ وَلَمْ يَشْبَعْ ضَيْفُهُ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ مَتَى أَمْسَكَ أَمْسَكَ الضَّيْفُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْكُلَ فَوْقَ الشِّبَعِ لِئَلَّا يَصِيرَ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ مَنْ أَسَاءَ الْقِرَى قَالَ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ , وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَثْنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ . وَقَالُوا مِنْ السَّرَفِ أَنْ يُلْقَى عَلَى الْمَائِدَةِ مِنْ الْخُبْزِ أَضْعَافُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْآكِلُونَ . وَمِنْهُ أَنْ يَصْنَعَ لِنَفْسِهِ أَلْوَانَ الطَّعَامِ , وَالْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِنَا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْإِقْنَاعِ , وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَكُونَ الْبَطْنُ أَثْلَاثًا كَمَا مَرَّ وَيَجُوزُ أَكْلُهُ أَكْثَرَ بِحَيْثُ لَا يُؤْذِيهِ وَمَعَ خَوْفِ أَذًى وَتُخَمَةٍ يَحْرُمُ , وَظَاهِرُ الْمُنْتَهَى , وَالْغَايَةِ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ . قَالَ فِي الْغَايَةِ: وَيُكْرَهُ أَكْلُهُ مِنْ أَعْلَى الصَّحْفَةِ إلَى أَنْ قَالَ: وَأَكْلُهُ حَارًّا , أَوْ كَثِيرًا بِحَيْثُ يُؤْذِيهِ أَوْ قَلِيلًا بِحَيْثُ يَضُرُّهُ وَلَمْ يُشِرْ لِلْخِلَافِ . وَيُكْرَهُ إدْمَانُ أَكْلِ اللَّحْمِ وَتَقْلِيلُ الطَّعَامِ بِحَيْثُ يَضُرُّهُ . وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَنَاوَلَ فَوْقَ حَاجَتِهِ ; لِأَنَّهُ قُوتُهُ وَقُوتُ غَيْرِهِ . قِيلَ لِسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: إنَّ ابْنَك بَاتَ بَشِمًا فَقَالَ: لَوْ مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامُ بْنُ تَيْمِيَّةَ: يَعْنِي أَعَانَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ كَقَاتِلِ نَفْسِهِ انْتَهَى .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ تَرْكُ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ . وَلَا بَأْسَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ طَعَامَيْنِ وَمِنْ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّمَا اشْتَهَيْت . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَبْصِرتَهِ: الشِّبَعُ يُوجِبُ تَرَهُّلَ الْبَدَنِ وَتَكَاسُلَهُ وَكَثْرَةَ النَّوْمِ وَبَلَادَةَ الذِّهْنِ , وَذَلِكَ بِتَكْثِيرِ الْبُخَارِ فِي الرَّأْسِ حَتَّى يُغَطِّيَ مَوْضِعَ الْفِكْرِ وَالذِّكْرِ . وَالْبِطْنَةُ تُذْهِبُ الْفَطِنَةَ وَتَجْلُبُ أَمْرَاضًا عَسِرَةً وَمَقَامُ الْعَدْلِ أَنْ لَا يَأْكُلَ حَتَّى تُصَدَّ الشَّهْوَةُ وَأَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ , وَهُوَ يَشْتَهِي الطَّعَامَ . وَنِهَايَةُ الْمَقَامِ الْحَسَنِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: ثُلُثٌ طَعَامٌ وَثُلُثٌ شَرَابٌ وَثُلُثٌ نَفَسٌ وَالْأَكْلُ عَلَى مَقَامِ الْعَدْلِ يُصِحُّ الْبَدَنَ وَيُبْعِدُ الْمَرَضَ وَيُقَلِّلُ النَّوْمَ وَيُخَفِّفُ الْمُؤْنَةَ وَيُرَقِّقُ الْقَلْبَ وَيُصَفِّيهِ فَتَحْسُنُ فِكْرَتُهُ وَتَسْهُلُ الْحَرَكَاتُ وَالتَّعَبُّدَاتُ وَيَحْصُلُ الْإِيثَارُ , ثُمَّ نُقِلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: مَنْ ضَبَطَ بَطْنَهُ ضَبَطَ دِينَهُ وَمَنْ مَلَكَ جُوعَهُ مَلَكَ الْأَخْلَاقَ الصَّالِحَةَ , وَإِنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ بَعِيدَةٌ مِنْ الْجَائِعِ قَرِيبَةٌ مِنْ الشَّبْعَانِ , وَالشِّبَعُ يُمِيتُ الْقَلْبَ , وَمِنْهُ يَكُونُ الْفَرَحُ , وَالْمَرَحُ وَالضَّحِكُ , ثُمَّ أَنْشَدَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رحمه الله تعالى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ: تَجَوَّعْ , فَإِنَّ الْجُوعَ يُورِثُ أَهْلَهُ مَصَادِرَ بِرٍّ خَيْرُهَا الدَّهْرَ دَائِمُ وَلَا تَكُ ذَا بَطْنٍ وَعَيْبٍ وَشَهْوَةٍ فَتُصْبِحَ فِي الدُّنْيَا وَقَلْبُك هَائِمُ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ كَثْرَةَ الْأَلْوَانِ ; لِأَنَّهَا تَدْعُو إلَى كَثْرَةِ الْأَكْلِ وَمَا زَالُوا يَذُمُّونَ الشِّبَعَ , ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي جُحَيْفَةَ وتجشيه عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا قِيلَ لِسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: إنَّ ابْنَك لَمْ يَنَمْ اللَّيْلَةَ قَالَ: أَبَشِمًا؟ قِيلَ بَشِمًا , قَالَ: لَوْ مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ , وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ . قَالَ: وَعُيِّرَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ أَبَاك مَاتَ بَشِمًا وَمَاتَتْ أُمُّك بَغِرًا فَالْبَشَمُ فِي الطَّعَامِ , وَالْبَغَرُ فِي الْمَاءِ . قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيّ: وَقَدْ تَقَلَّلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَزَهِّدِينَ فَضَعَفُوا عَنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ , وَذَلِكَ مِنْ أَوَامِرِ الشَّيْطَانِ , وَإِنَّمَا قَدْ لَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ الْحَلَالَ فِي وَقْتٍ فَيَصْبِرُ , وَقَدْ يُؤْثِرُ , فَأَمَّا الدَّوَامُ عَلَى مَا يُضْعِفُ الْبَدَنَ وَيُوجِبُ تَنَشُّفَ الرُّطُوبَاتِ وَيُبْسَ الدِّمَاغِ فَيَخْرُجُ إلَى الْخَيَالَاتِ الْفَاسِدَةِ فَذَاكَ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا الْجُهَّالُ , وَأَمَّا تَرْكُ الشَّهَوَاتِ فَقَدْ اعْتَمَدَهُ خَلْقٌ مِنْ الصَّالِحِينَ ; لِأَنَّهَا تُوجِبُ كَثْرَةَ الْأَكْلِ وَلَا يَحْتَمِلُهَا كَسْبُ الْوَرَعِ . عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ مُطْلَقًا إنَّمَا يَتْرُكُ مَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ التَّرَفِ مِنْ أَلْوَانِ الْأَطْعِمَةِ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْحَلْوَى , وَالْعَسَلَ وَأَكْلَ الدَّجَاجِ . فَأَمَّا أَهْلُ الْغَفْلَةِ فَيَأْكُلُونَ شَرَهًا وَلَا يَنْظُرُونَ فِي حِلِّ الْمَطْعَمِ وَيَتَعَدَّى أَمْرُهُمْ إلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ , وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " اجْتَنِبُوا أُمَّ الْخَبَائِثِ " وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هِشَامٍ النصيبي قَالَ: كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ مُسْرِفٌ عَلَى نَفْسِهِ يُكَنَّى أَبَا عَمْرٍو وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ انْتَبَهَ ذَاتَ لَيْلَةٍ , وَهُوَ فَزِعٌ فَقِيلَ لَهُ: مَالَك؟ فَقَالَ: أَتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي هَذَا وَرَدَّدَ عَلَيَّ هَذَا الْكَلَامَ حَتَّى حَفِظْته , وَهُوَ: جَدَّ بِكَ الْأَمْرُ أَبَا عَمْرٍو وَأَنْتَ مَعْكُوفٌ عَلَى الْخَمْرِ تَشْرَبُ صَهْبَاءَ صُرَاحِيَّةٍ سَالَ بِك السَّيْلُ وَمَا تَدْرِي فَلَمَّا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ مَاتَ فَجْأَةً , ثُمَّ أَنْشَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رحمه الله تعالى: تَلُومُ لَمَّا خَلَتْ أَمَامَهْ قُلْت لَهَا لَا وَلَا كَرَامَهْ كِسْرَةُ خُبْزٍ وَقَعْبُ مَاءٍ وَسَحْقُ ثَوْبٍ مَعَ السَّلَامَهْ خَيْرٌ مِنْ الْعَيْشِ فِي نَعِيمٍ يَكُونُ مِنْ بَعْدِهِ نَدَامَهْ , وَلَوْ أَخَذْنَا نَتَكَلَّمُ عَلَى الْجُوعِ وَضِدِّهِ , وَمَقْبُولِ مَا قِيلَ فِيهِ وَرَدِّهِ لَمَلَّ الطَّبْعُ . وَخَرَجْنَا عَنْ الْوَضْعِ لَكِنْ فِي الْإِشَارَةِ . مَا يُغْنِي عَنْ بَسْطِ الْعِبَارَةِ .
(الثَّالِثُ) قَالَ عُلَمَاؤُنَا مِنْهُمْ صَاحِبُ الْإِقْنَاعِ فِي إقْنَاعِهِ , وَالْغَايَةِ وَغَيْرِهِمَا: وَمَنْ أَذْهَبَ طَيِّبَاتِهِ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعَ بِهَا نَقَصَتْ دَرَجَاتُهُ فِي الْآخِرَةِ . وَدَلِيلُ هَذَا مَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: لَقِيَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ , وَقَدْ ابْتَعْت لَحْمًا بِدِرْهَمٍ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا جَابِرُ؟ فَقَالَ: قُلْت قَرِمَ أَهْلِي فَابْتَعْت لَهُمْ لَحْمًا بِدِرْهَمٍ فَجَعَلَ عُمَرُ يُرَدِّدُ قَرِمَ أَهْلِي حَتَّى تَمَنَّيْت أَنَّ الدِّرْهَمَ سَقَطَ مِنِّي وَلَمْ أَلْقَ عُمَرَ قَوْلُهُ قَرِمَ أَهْلِي أَيْ اشْتَدَّتْ شَهْوَتُهُمْ اللَّحْمَ . وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَدْرَكَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما وَمَعَهُ حَامِلُ لَحْمٍ فَقَالَ عُمَرُ: " أَمَا يُرِيدُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَطْوِيَ بَطْنَهُ لِجَارِهِ وَابْنِ عَمِّهِ فَأَيْنَ تَذْهَبُ عَنْكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ مُرْسَلًا وَمَوْصُولًا قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ: قَالَ الْحَلِيمِيُّ رحمه الله هَذَا الْوَعِيدُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى , وَإِنْ كَانَ لِلْكُفَّارِ الَّذِي يَقْدُمُونَ عَلَى الطَّيِّبَاتِ الْمَحْظُورَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ فِي قوله تعالى قَالَ تَعَالَى: قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: ثُمَّ النَّعِيمُ هَلْ هُوَ عَامٌّ , أَوْ خَاصٌّ قَوْلَانِ: الظَّاهِرُ الْعُمُومُ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هُوَ الصَّحِيحُ فَالْكَافِرُ يُسْأَلُ تَوْبِيخًا , وَالْمُؤْمِنُ عَنْ الشُّكْرِ . قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: سُؤَالُ تَعْدَادِ النِّعَمِ وَإِعْلَامٍ بِالِامْتِنَانِ بِهَا لَا سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَمُحَاسَبَةٍ . (الرَّابِعُ) قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: مَنْ تَفَكَّرَ فِي أَقَلِّ نِعْمَةٍ عَلِمَ أَنَّ شُكْرَهَا لَا يَسْتَوْعِبُهَا قَالَ: وَلَوْ ذَكَرْنَا نِعْمَةً وَاحِدَةً لَمَا أَحَطْنَا بِحَوَاشِيهَا .
وَلَكِنْ اُنْظُرْ إلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ سَبَبَ بَقَاءِ الْآدَمِيِّ الْقُوتَ فَمِنْ النِّعْمَةِ: الْمُتَنَاوَلُ , وَالْمُتَبَادَلُ , فَأَمَّا الْمُتَنَاوَلُ فَالْحَبُّ مَثَلًا , فَلَوْ أَنَّك تَنَاوَلْت الْمَوْجُودَ فَنِيَ وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُ نَاشِئًا بِالزَّرْعِ , فَإِذَا بَذَرَهُ الْحُرَّاثُ افْتَقَرُوا إلَى الْمِيرَةِ وَتَنْقِيَةِ الْأَرْضِ مِنْ الْحَشِيشِ وَجَعَلَ فِي الزَّرْعِ قُوَّةً يَجْتَذِبُ بِهَا الْغِذَاءَ إلَى نَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ أَصْلِهِ وَعُرُوقِهِ الَّتِي فِي الْأَرْضِ , ثُمَّ يَجْتَذِبُ ذَلِكَ فِي الْعُرُوقِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي تَظْهَرُ غَلِيظَةَ الْأُصُولِ فِي الْوَرَقَةِ , ثُمَّ يُسْتَدَقُّ إلَى عُرُوقٍ شِعْرِيَّةٍ تَنْبَسِطُ فِي جَمِيعِ الْوَرَقَةِ , وَكَمَا أَنَّك تَغْتَذِي بِطَعَامٍ مَخْصُوصٍ إذْ الْخَشَبُ لَا يُغَذِّيَك , فَكَذَلِكَ النَّبَاتُ يَفْتَقِرُ إلَى الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ , وَالْحَرَارَةِ . فَانْظُرْ كَيْفَ سَخَّرَ لَهُ الْغُيُومَ وَبَعَثَ الرِّيَاحَ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ وَسَخَّرَ حَرَارَةَ الشَّمْسِ , فَلَمَّا افْتَقَرَتْ الْأَغْذِيَةُ إلَى رُطُوبَةٍ خَلَقَ الْقَمَرَ فَهُوَ يُنْضِجُ الْفَوَاكِهَ وَيَصْبُغُهَا فَإِذَا تَكَامَلَ الْبَذْرُ افْتَقَرَ إلَى الْحَصَادِ وَالْفَرْكِ وَالتَّنْقِيَةِ وَالطَّحْنِ , وَالْعَجْنِ , وَالْخَبْزِ , وَلَوْ تَأَمَّلْت مَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَطَالَ ; لِأَنَّك إذَا نَظَرْت فِي آلَاتِ الْحِرَاثِ رَأَيْتهَا مُحْتَاجَةً إلَى نَجَّارٍ وَحَدَّادٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ , فَمَا يَسْتَدِيرُ رَغِيفٌ حَتَّى يَعْمَلَ فِيهِ عَالَمٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمَلَكِ الَّذِي يَسُوقُ السَّحَابَ إلَى أَنْ تَأْكُلَهُ .
, وَفِي الْإِحْيَاءِ لِلْغَزَالِيِّ لَا يَسْتَدِيرُ الرَّغِيفُ وَيُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْك حَتَّى يَعْمَلَ فِيهِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَانِعًا أَوَّلُهُمْ مِيكَائِيلُ عليه السلام , وَهُوَ الَّذِي يَكِيلُ الْمَاءَ مِنْ خَزَائِنِ الرَّحْمَةِ , ثُمَّ الْمَلَائِكَةُ الَّتِي تَزْجُرُ السَّحَابَ وَالشَّمْسَ , وَالْقَمَرَ , وَالْأَفْلَاكَ وَدَوَابَّ الْأَرْضِ , وَآخِرُ ذَلِكَ الْخَبَّازُ انْتَهَى . وَلَمَّا تَمَّ ذَلِكَ جَعَلَ لَك مَيْلًا إلَيْهِ وَشَوْقًا فِي الطَّبْعِ ; لِأَنَّك لَوْ رَأَيْته وَلَمْ يَكُنْ لَك إلَيْهِ شَوْقٌ لَمْ تَطْلُبْهُ فَجَعَلَ شَهْوَتَك لَهُ كَالْمُتَقَاضِي , فَإِذَا أَخَذْت مِقْدَارَ الْحَاجَةِ سَكَنَتْ تِلْكَ الشَّهْوَةُ , وَكَذَلِكَ شَهْوَةُ الْوِقَاعِ لِيَبْقَى النَّسْلُ , وَقَدْ لَا يَكُونُ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي بَلَدِك فَيُلْقِي الْحِرْصَ فِي قُلُوبِ التُّجَّارِ فَيَنْقُلُونَهُ إلَيْك , فَإِذَا تَنَاوَلْت الطَّعَامَ أَلْقَيْته فِي دِهْلِيزِ الْفَمِ وَبِذَلِكَ لَا يَتَهَيَّأُ ابْتِلَاعُهُ فَخَلَقَ الْأَسْنَانَ تَقْطَعُهُ , وَالْأَضْرَاسَ تَطْحَنُهُ وَجَعَلَ الرَّحَى الْأَسْفَلَ يَدُورُ دُونَ الْأَعْلَى لِئَلَّا يُخَاطِرَ بِالْأَعْضَاءِ الشَّرِيفَةِ وَلَسْت تَرَى رَحَى قَطُّ يَدُورُ أَسْفَلَهَا . وَلَمَّا كَانَ الْمَطْحُونُ يَفْتَقِرُ إلَى تَقْلِيبٍ لِيُطْحَنَ بِهِ مَا لَمْ يُطْحَنْ خَلَقَ اللِّسَانَ لِيُقَلِّبَهُ , ثُمَّ لَا سَبِيلَ إلَى بَلْعِهِ إلَّا أَنْ يُزْلَقَ بِنَوْعِ رُطُوبَةٍ , فَانْظُرْ كَيْفَ خَلَقَ تَحْتَ اللِّسَانِ عَيْنًا يَفِيضُ اللُّعَابُ مِنْهَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَيَعْجِنُ بِهَا الطَّعَامَ , أَلَا تَرَاهَا إذَا دَنَا مِنْك الطَّعَامُ تَنْهَضُ لِلْخِدْمَةِ فَتَتَحَلَّبُ , ثُمَّ هَيَّأَ المرئ , وَالْحَنْجَرَةَ لِبَلْعِهِ , فَيَهْوَى فِي دِهْلِيزِ المريء إلَى الْمَعِدَةِ , فَيُطْبَخُ هُنَاكَ وَيَصِيرُ مَائِعًا , ثُمَّ تَصْبُغُهُ الْكَبِدُ بِلَوْنِ الدَّمِ , وَتُنْضِجُهُ فَيَنْبَعِثُ إلَى الْأَعْضَاءِ فِي الْعُرُوقِ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ , وَتَبْقَى فَضْلَتَانِ إحْدَاهُمَا شَبِيهٌ بِالدُّرْدِيِّ , وَالْعَكِرِ , وَهُوَ الْخَلْطُ السَّوْدَاوِيُّ , وَالْأُخْرَى شَبِيهٌ بِالرَّغْوَةِ , وَهِيَ الصَّفْرَاءُ فَيَبْقَى الدَّمُ صَافِيًا , وَإِنَّمَا يَثْقُلُ الشُّكْرُ أَوْ تُقَالُ لَفْظَةُ " الْحَمْدُ لِلَّهِ " عَلَى سَبِيلِ الْغَفْلَةِ مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ بِالْمُنْعِمِ وَقِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِمِقْدَارِ النِّعْمَةِ وَيَدُلُّك عَلَى الْجَهْلِ أَنَّك لَوْ حُبِسْت فِي حَمَّامٍ فَخَرَجْت إلَى الْهَوَاءِ الْبَارِدِ وَجَدْت لَذَّةً لَمْ تَجِدْهَا وَذَلِكَ النَّفَسُ هُوَ الدَّائِمُ غَيْرَ أَنَّ الضِّدَّ عَرَّفَك قَدْرَهُ . وَبِضِدِّهَا تَتَمَيَّزُ الْأَشْيَاءُ , ثُمَّ قَالَ فَيَا غَافِلًا عَنْ النِّعَمِ زَاحَمْت فِي الْغَفْلَةِ النَّعَمَ مَا تَعْرِفُ مِنْ الطَّعَامِ إلَّا الْأَكْلَ وَلَا مِنْ الْمَاءِ إلَّا الشُّرْبَ . وَتَتَكَاسَلُ فِي لَفْظِ الْحَمْدِ , ثُمَّ تُنْفِقُ النِّعَمَ فِي مَعَاصِي الْمُنْعِمِ . يَا عَدِيمَ الْعَقْلِ وَلَيْسَ بِمَجْنُونٍ . يَا رَاقِدًا فِي غَفْلَتِهِ وَلَيْسَ بِنَائِمٍ , يَا مَيِّتًا فِي حَيَاتِهِ وَلَيْسَ بِمَقْبُورٍ افْتَحْ بَصَرَ الْبَصِيرَةِ تَرَ الْعَجَائِبَ , وَإِنْ تَرَقَّيْت بِفَهْمِك عَلِمْت أَنَّ مَا بَيْنَ يَدَيْك أَعْجَبُ . وَإِنَّمَا هِيَ الدَّارُ كَالْمَكْتَبِ يَخْرُجُ مِنْهُ الصِّبْيَانُ بَيْنَ حَاذِقٍ وَبَيْنَ غَافِلٍ وَمُتَعَلِّمٍ .
وَأَنَّ مَنْ تَأَمَّلَ مَدْخَلَهُ وَمُسْتَقَرَّهُ وَمَخْرَجَهُ رَأَى فِيهِ الْعَجَائِبَ , وَالْعِبَرَ , وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي مِفْتَاحِ دَارِ السعادة: وَإِذَا نَظَرَ الْإِنْسَانُ إلَى غِذَائِهِ فَقَطْ فِي مَدْخَلِهِ وَمُسْتَقَرِّهِ وَمَخْرَجِهِ رَأَى فِيهِ الْعِبَرَ , وَالْعَجَائِبَ كَيْفَ جُعِلَتْ لَهُ آلَةٌ يَتَنَاوَلُهُ بِهَا , ثُمَّ بَابٌ يَدْخُلُ مِنْهُ , ثُمَّ آلَةٌ تَقْطَعُهُ صِغَارًا , ثُمَّ طَاحُونٌ تَطْحَنُهُ , ثُمَّ أَعْيُنٌ بِمَاءٍ تَعْجِنُهُ , ثُمَّ جُعِلَ لَهُ مَجْرَى وَطَرِيقٌ إلَى جَانِبِ مَجْرَى النَّفَسِ يَنْزِلُ هَذَا وَيَصْعَدُ هَذَا فَلَا يَلْتَقِيَانِ مَعَ غَايَةِ الْقُرْبِ , ثُمَّ جَعَلَ لَهُ حَوَايَا وَطُرُقًا تُوَصِّلُهُ إلَى الْمَعِدَةِ فَهِيَ خِزَانَتُهُ وَمَوْضِعُ اجْتِمَاعِهِ , وَلَهَا بَابَانِ: بَابٌ أَعْلَى يَدْخُلُ مِنْهُ الطَّعَامُ وَبَابٌ أَسْفَلُ يَخْرُجُ مِنْهُ ثَفَلُهُ , وَالْبَابُ الْأَعْلَى أَوْسَعُ مِنْ الْأَسْفَلِ إذْ الْأَعْلَى مَدْخَلٌ لِلْحَاصِلِ , وَالْأَسْفَلُ مُصَرِّفٌ لِلضَّارِّ مِنْهُ , وَالْأَسْفَلُ مُنْطَبِقٌ دَائِمًا لِيَسْتَقِرَّ الطَّعَامُ فِي مَوْضِعِهِ , فَإِذَا انْتَهَى الْهَضْمُ , فَإِنَّ ذَلِكَ الْبَابَ يَنْفَتِحُ إلَى انْقِضَاءِ الدَّفْعِ وَيُسَمَّى الْبَوَّابُ لِذَلِكَ , وَالْأَعْلَى يُسَمَّى فَمُ الْمَعِدَةِ يَنْزِلُ إلَى الْمَعِدَةِ مُتَلَمِّسًا , فَإِذَا اسْتَقَرَّ فِيهَا انْمَاعَ وَذَابَ وَيُحِيطُ بِالْمَعِدَةِ مِنْ دَاخِلِهَا وَخَارِجِهَا حَرَارَةٌ نَارِيَّةٌ , بَلْ رُبَّمَا تَزِيدُ عَلَى حَرَارَةِ النَّارِ يَنْضَجُ بِهَا الطَّعَامُ فِيهَا كَمَا يَنْضَجُ الطَّعَامُ فِي الْقِدْرِ بِالنَّارِ الْمُحِيطَةِ بِهِ وَلِذَلِكَ تُذِيبُ مَا هُوَ مُسْتَحْجَرٌ كَالْحَصَى وَغَيْرِهِ حَتَّى تَتْرُكَهُ مَائِعًا , فَإِذَا أَذَابَتْهُ عَلَا صَفْوُهُ إلَى فَوْقٍ وَرَسَا كَدَرُهُ إلَى أَسْفَلَ . وَمِنْ الْمَعِدَةِ عُرُوقٌ مُتَّصِلَةٌ بِسَائِرِ الْبَدَنِ يَنْبَعِثُ فِيهَا مَعْلُومُ كُلِّ عُضْوٍ وَقِوَامُهُ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ وَقَبُولِهِ فَيَبْعَثُ أَشْرَفَ مَا فِي ذَلِكَ وَأَلْطَفَهُ وَأَحَبَّهُ إلَى الْأَرْوَاحِ , فَتَبْعَثُ إلَى الْبَصَرِ بَصَرًا وَإِلَى السَّمْعِ سَمْعًا وَإِلَى الشَّمِّ شَمًّا وَإِلَى كُلِّ حَاسَّةٍ بِحَسْبِهَا , فَهَذَا أَلْطَفُ مَا يَتَوَلَّدُ عَنْ الْغِذَاءِ , ثُمَّ يَنْبَعِثُ مِنْهُ إلَى الدِّمَاغِ مَا يُنَاسِبُهُ فِي اللَّطَافَةِ وَالِاعْتِدَالِ , ثُمَّ يَنْبَعِثُ مِنْ الْبَاقِي إلَى الْأَعْضَاءِ فِي تِلْكَ الْمَجَارِي بِحَسْبِهَا وَيَنْبَعِثُ مِنْهُ إلَى الْعِظَامِ وَالشُّعُورِ , وَالْأَظْفَارِ مَا يُغَذِّيهَا وَيَحْفَظُهَا فَيَكُونُ الْغِذَاءُ دَاخِلًا الْمَعِدَةَ مِنْ طُرُقٍ وَمَجَارٍ , هَذَا وَارِدٌ إلَيْهَا وَهَذَا صَادِرٌ عَنْهَا . حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَنِعْمَةٌ سَابِغَةٌ . وَلَمَّا كَانَ الْغِذَاءُ إذَا اسْتَحَالَ فِي الْمَعِدَةِ اسْتَحَالَ دَمًا وَمِرَّةً سَوْدَاءَ وَمِرَّةً صَفْرَاءَ وَبَلْغَمًا اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ جَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاطِ مَصْرِفًا يَنْصَبُّ إلَيْهِ وَيَجْتَمِعُ فِيهِ وَلَا يَنْبَعِثُ إلَى الْأَعْضَاءِ الشَّرِيفَةِ إلَّا أَكْمَلُهُ فَوَضَعَ الْمَرَارَةَ مَصَبًّا لِلْمِرَّةِ الصَّفْرَاءِ وَوَضَعَ الطُّحَالَ مَقَرًّا لِلْمِرَّةِ السَّوْدَاءِ , وَالْكَبِدُ يَمْتَصُّ أَشْرَفَ مَا فِي ذَلِكَ , وَهُوَ الدَّمُ يَبْعَثُهُ إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ مِنْ عِرْقٍ وَاحِدٍ يَنْقَسِمُ عَلَى مَجَارٍ كَثِيرَةٍ يُوَصِّلُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّعُورِ , وَالْأَعْصَابِ , وَالْعِظَامِ , وَالْعُرُوقِ مَا يَكُونُ بِهِ قِوَامُهُ , ثُمَّ إذَا نَظَرْت إلَى مَا فِي هَذَا الْجِسْمِ مِنْ الْقُوَى الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي أَنْفُسِهَا وَمَنَافِعِهَا رَأَيْت الْعَجَبَ الْعُجَابَ كَقُوَّةِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَشَمِّهِ وَذَوْقِهِ وَلَمْسِهِ وَحُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقُوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِدْرَاكِ , وَالْإِرَادَةِ , وَكَذَلِكَ الْقُوَى الْمُتَصَرِّفَةُ فِي غِذَائِهِ كَالْقُوَّةِ الْمُنْضِجَةِ لَهُ وَكَالْقُوَّةِ الْمَاسِكَةِ لَهُ وَالدَّافِعَةِ لَهُ إلَى الْأَعْضَاءِ , وَالْقُوَّةِ الْهَاضِمَةِ لَهُ بَعْدَ أَخْذِ الْأَعْضَاءِ حَاجَتَهَا مِنْهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَجَائِبِ خِلْقَتِهِ الظَّاهِرَةِ , وَالْبَاطِنَةِ . وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ مِفْتَاحِ دَارِ السعادة: فَتَأَمَّلْ حَالَ الطَّعَامِ فِي وُصُولِهِ إلَى الْمَعِدَةِ وَكَيْفَ يَسْرِي مِنْهَا فِي الْبَدَنِ , فَإِنَّهُ إذَا اسْتَقَرَّ فِيهَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ وَانْضَمَّتْ فَتَطْبُخُهُ وَتُجِيدُ صَنْعَتَهُ , ثُمَّ تَبْعَثُهُ إلَى الْكَبِدِ فِي مَجَارٍ دِقَاقٍ , وَقَدْ جَعَلَ بَيْنَ الْكَبِدِ وَبَيْنَ تِلْكَ الْمَجَارِي غِشَاءً رَقِيقًا كَالْمِصْفَاةِ الضَّيِّقَةِ الْأَبْخَاشِ تُصَفِّيهِ فَلَا يَصِلُ إلَى الْكَبِدِ مِنْهُ شَيْءٌ غَلِيظٌ خَشِنٌ فَلَا ينكأها ; لِأَنَّ الْكَبِدَ رَقِيقَةٌ لَا تَحْمِلُ الْغَلِيظَ , فَإِذَا قَبِلَتْهُ الْكَبِدُ أَنْفَذَتْهُ إلَى الْبَدَنِ كُلِّهِ فِي مَجَارٍ مُهَيَّأَةٍ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَجَارِي الْمُعَدَّةِ لِلْمَاءِ لِيَسْلُكَ فِي الْأَرْضِ فَيَعُمَّهَا بِالسَّقْيِ , ثُمَّ يَبْعَثُ مَا بَقِيَ مِنْ الْخَبَثِ , وَالْفُضُولِ إلَى مَغَايِضَ وَمَصَارِفَ قَدْ أُعِدَّتْ لَهَا فَمَا كَانَ مِنْ مِرَّةٍ صَفْرَاءَ بَعَثَتْ بِهِ إلَى الْمَرَارَةِ , وَمَا كَانَ مِنْ مِرَّةٍ سَوْدَاءَ بَعَثَتْ بِهِ إلَى الطُّحَالِ , وَمَا كَانَ مِنْ الرُّطُوبَةِ الْمَائِيَّةِ بَعَثَتْ بِهِ إلَى الْمَثَانَةِ فَمَنْ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ وَأَحْكَمَهُ , وَدَبَّرَهُ وَقَدَّرَهُ أَحْسَنَ تَقْدِيرٍ وَأَتَمَّهُ . انْتَهَى . فَانْظُرْ لَوْ قُمْت اللَّيْلَ وَصُمْت النَّهَارَ بِقَلْبٍ لَا يَغْفُلُ , وَلِسَانٍ عَنْ الذِّكْرِ لَا يَعْقِلُ . هَلْ أَدَّيْت شُكْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ؟ وَلَا يَذْهَبُ عَنْك أَنَّهُ لَوْ انْسَدَّ مَجْرَى مِنْ تِلْكَ الْمَجَارِي الدِّقَاقِ الَّتِي تَنْبَعِثُ مِنْهَا تِلْكَ الْأَغْذِيَةُ لَجَفَّ مَا تُؤَدِّيهِ إلَيْهِ مِنْ الْأَعْضَاءِ , وَالْعُرُوقِ , وَالْأَعْصَابِ كَالشَّجَرَةِ الَّتِي حُبِسَ عَنْهَا الْمَاءُ فَلَيْسَ لِلْعَاقِلِ إلَّا الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ عَنْ تَأْدِيَةِ شُكْرِ أَقَلِّ نِعْمَةٍ , وَمَنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ الْعَجْزِ فَقَدْ أَهْلَكَهَا وَحَدَّثَهَا بِالْمُحَالِ , وَلَوْ أَخَذْنَا نَتَكَلَّمُ عَلَى مَصَارِفِ الْأَغْذِيَةِ وَكَيْفِيَّةِ إنْضَاجِهَا وَتَفْرِقَتِهَا فِي الْبَدَنِ لَطَالَ الْكِتَابُ وَخَرَجْنَا عَنْ الْمَقْصُودِ , وَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ بِمِفْتَاحِ دَارِ السعادة , فَإِنَّهُ تَكَفَّلَ بِحَلِّ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَيَحْسُنُ تَصْغِيرُ الْفَتَى لُقْمَةَ الْغِذَا وَبَعْدَ ابْتِلَاعٍ ثَنِّ وَالْمَضْغَ جَوِّدْ (وَيَحْسُنُ) بِمَعْنَى يَنْدُبُ وَيُسْتَحَبُّ (تَصْغِيرُ الْفَتَى) أَيْ كُلِّ آكِلٍ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ (لُقْمَةَ الغذا) أَيْ لُقَمَ مَا يَتَغَذَّى بِهِ . قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى يُسَنُّ أَنْ يُصَغِّرَ اللُّقَمَ وَيُجِيدَ الْمَضْغَ . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رضي الله عنه: إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ إطَالَةِ الْأَكْلِ , وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: رضي الله عنه عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَمْ أَجِدْهَا مَأْثُورَةً , وَلَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه مَذْكُورَةً , لَكِنْ فِيهَا مُنَاسَبَةٌ , وَقَالَ أَيْضًا: نَظِيرُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ اسْتِحْبَابِ تَصْغِيرِ الْأَرْغِفَةِ وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا اسْتِحْبَابَ تَصْغِيرِ الْكَبِيرِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْخَبْزِ وَعِنْدَ الْوَضْعِ وَعِنْدَ الْأَكْلِ انْتَهَى . قُلْت: قَدْ يُسْتَدَلُّ لِتَصْغِيرِ الْأَرْغِفَةِ بِمَا رَوَى الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه مَرْفُوعًا " قُوتُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ " قَالَ إبْرَاهِيمُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْجُنَيْدِ أَحَدُ رُوَاتِهِ: سَمِعْت بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يُفَسِّرُ هَذَا قَالَ هَذَا تَصْغِيرُ الْأَرْغِفَةِ . وَفِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ: وَحُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ تَصْغِيرُ الْأَرْغِفَةِ . قَالَ فِي السِّيرَةِ الشَّامِيَّةِ: قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ الْخَطِيبِ رحمه الله: تَتَبَّعْت هَلْ كَانَتْ أَقْرَاصُ خُبْزِهِ صلى الله عليه وسلم صِغَارًا أَمْ كِبَارًا فَلَمْ أَجِدْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا بَعْدَ الْفَحْصِ , وَأَمَّا حَدِيثُ " صَغِّرُوا الْخُبْزَ وَأَكْثِرُوا عَدَدَهُ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ " فَرَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ وَسَنَدُهُ وَاهٍ انْتَهَى . قُلْت: وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ , وَقَالَ الْحَافِظُ: تَتَبَّعْت هَلْ كَانَ خُبْزُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا فَلَمْ أَرَ فِيهِ شَيْئًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَا يَمُدُّ يَعْنِي الْآكِلَ يَدَهُ إلَى الْأُخْرَى يَعْنِي إلَى اللُّقْمَةِ الْأُخْرَى حَتَّى يَبْتَلِعَ مَا قَبْلَهَا , وَلِذَا قَالَ فِي الْآدَابِ: وَلَا يَأْكُلُ لُقْمَةً حَتَّى يَبْلَعَ مَا قَبْلَهَا , وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّاظِمُ رحمه الله بِقَوْلِهِ: (وَبَعْدَ ابْتِلَاعٍ) اللُّقْمَةَ الْأُولَى (ثَنِّ) أَيْ تَنَاوَلْ لُقْمَةً ثَانِيَةً وَلَا تَبْلَعْ الْغِذَاءَ إلَّا بَعْدَ إجَادَةِ الْمَضْغِ , وَلِذَا قَالَ: رحمه الله (وَالْمَضْغَ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ مَضَغَهُ كَمَنَعَهُ لَاكَهُ بِسِنِّهِ , وَالْمَضَاغُ كَسَحَابٍ مَا يُمْضَغُ (جَوِّدْ) أَيْ أَحْكِمْ مَضْغَهُ وَأَحْسِنْهُ حَتَّى يَصِيرَ جَيِّدًا ضِدَّ الرَّدِيءِ , وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ شُرَّافَةِ النَّفْسِ وَمُرَاعَاةِ الْمَعِدَةِ , وَالْبُعْدِ عَنْ الِاغْتِصَاصِ بِاللُّقْمَةِ مَعَ التَّأَدُّبِ مَعَ الْجَلِيسِ إنْ كَانَ وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ .
وَيَحْسُنُ قَبْلَ الْمَسْحِ لَعْقُ أَصَابِعً وَأَكْلُ فُتَاتٍ سَاقِطٍ بِتَثَرُّدِ (وَيَحْسُنُ) أَيْ يُسَنُّ لِمَنْ فَرَغَ مِنْ أَكْلِهِ (قَبْلَ الْمَسْحِ) أَيْ قَبْلَ مَسْحِ يَدِهِ بِنَحْوِ الْمِنْدِيلِ (لَعْقُ) أَيْ لَحْسُ . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: لَعِقَهُ كَسَمِعَهُ لَعْقَةً وَيُضَمُّ لَحِسَهُ (أَصَابِعَ) جَمْعُ أُصْبُعٍ وَذَلِكَ لِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلِهِ . فَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ وَيَلْعَقُهُنَّ إذَا فَرَغَ " وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَجْرَةَ . وَالْحُسَيْنُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْأَدْنَى وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه قَالَ " رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ بِالْإِبْهَامِ وَاَلَّتِي تَلِيهَا , وَالْوُسْطَى , ثُمَّ رَأَيْته يَلْعَقُ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَمْسَحَهَا قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا وَيَلْعَقَ الْوُسْطَى , ثُمَّ الَّتِي تَلِيهَا , ثُمَّ الْإِبْهَامَ " وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا بِسَنَدِ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَكَلَ لَعِقَ أَصَابِعَهُ , وَقَالَ: إنَّ لَعْقَ الْأَصَابِعِ بَرَكَةٌ " وَرَوَى مُسْلِمٌ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ سَعْدٍ وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ , فَإِذَا فَرَغَ لَعِقَهَا " , وَلَفْظُ أَبِي بَكْرٍ يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ وَلَا يَمْسَحُ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا . وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رحمه الله تعالى " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ الْإِبْهَامَ وَاللَّتَيْنِ يَلِيَانِهَا " وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَمْسَحْ أَصَابِعَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا " , وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنها وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ " , وَقَالَ: " إذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الْأَذَى وَلْيَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ " وَأَمَرَ بِسَلْتِ الْقَصْعَةِ , وَقَالَ: " إنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمْ الْبَرَكَةُ " وَذَكَرَ فِي الْآدَابِ نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا " إذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذَى وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ وَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ أَوْ يُلْعِقَهَا , فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَالْمِنْدِيلُ بِكَسْرِ الْمِيمِ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّدْلِ , وَهُوَ النَّقْلُ ; لِأَنَّهُ يَنْقُلُ وَقِيلَ: لِأَنَّ الْوَسَخَ يَنْدَلُّ بِهِ يُقَالُ: تَنَدَّلْت بِالْمِنْدِيلِ . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَيُقَالُ أَيْضًا تمندلت وَأَنْكَرَهَا الْكِسَائَيُّ . وَفِي الْقَامُوسِ الْمِنْدِيلُ بِالْكَسْرِ , وَالْفَتْحِ , وَكَمِنْبَرٍ الَّذِي يُتَمَسَّحُ بِهِ وتندل بِهِ وتمندل تَمَسَّحَ . وَعَنْهُ رضي الله عنه أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ , وَقَالَ: " إنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمْ الْبَرَكَةُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ: كَانَ صلى الله عليه وسلم لَا يَرُدُّ مَوْجُودًا وَلَا يَتَكَلَّفُ مَفْقُودًا , وَمَا قُرِّبَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الطَّعَامِ إلَّا أَكَلَهُ إلَّا أَنْ تَعَافَهُ نَفْسُهُ فَيَتْرُكَهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ , وَمَا عَابَ طَعَامًا قَطُّ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ . وَلَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ صلى الله عليه وسلم حَبْسُ نَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَغْذِيَةِ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ , فَإِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالطَّبِيعَةِ جِدًّا , وَلَوْ أَنَّهُ أَطْيَبُ , بَلْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ بَلَدِهِ بِأَكْلِهِ مِنْ اللَّحْمِ , وَالْفَاكِهَةِ , وَالْخُبْزِ وَالتَّمْرِ كَمَا مَرَّ . وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُرَاعِي صِفَةَ الْأَطْعِمَةِ وَطَبَائِعَهَا وَاسْتِعْمَالَهَا عَلَى قَاعِدَةِ الطِّبِّ , فَإِذَا كَانَ فِي أَحَدِ الطَّعَامَيْنِ مَا يَحْتَاجُ إلَى كَسْرٍ وَتَعْدِيلٍ كَسَرَهُ وَعَدَّلَهُ بِضِدِّهِ إنْ أَمْكَنَ كَتَعْدِيلِهِ حَرَارَةَ الرُّطَبِ بِالْبِطِّيخِ كَمَا سَيَأْتِي . قَالَ وَكَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ لَعِقَ أَصَابِعَهُ وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ مَنَادِيلُ يَمْسَحُونَ بِهَا أَيْدِيَهُمْ وَلَمْ تَكُنْ عَادَتُهُمْ غَسْلَ أَيْدِيهِمْ كُلَّمَا أَكَلُوا انْتَهَى . وَقَالَ فِي السِّيرَةِ الشَّامِيَّةِ: وَلَا عِبْرَةَ بِكَرَاهَةِ الْجُهَّالِ لِلَعْقِ الْأَصَابِعِ اسْتِقْذَارًا . نَعَمْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْأَكْلِ فَيَنْبَغِي اجْتِنَابُهُ ; لِأَنَّهُ يُعِيدُ أَصَابِعَهُ وَعَلَيْهَا أَثَرُ رِيقِهِ وَعَزَاهُ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ , وَهُوَ جَيِّدٌ جِدًّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
(وَ) يَحْسُنُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْآكِلِينَ وَغَيْرِهِمْ (أَكْلُ فُتَاتٍ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْفُتَاتُ مَا تَفَتَّتَ (سَاقِطٍ) مِنْ الطَّعَامِ عَلَى مَحَلٍّ طَاهِرٍ أَوَّلًا وَكَانَا جَافَّيْنِ (بِ) سَبَبِ (تَثَرُّدِ) الْخُبْزِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ ثَرَدَ الْخُبْزَ فَتَّهُ كَأَثْرَدَهُ وَتَثَرَّدَهُ بِالتَّاءِ وَالثَّاءِ عَلَى افْتَعَلَهُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ , وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: " دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ فَرَأَى كِسْرَةً مُلْقَاةً فَأَخَذَهَا فَمَسَحَهَا , ثُمَّ أَكَلَهَا , وَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَحْسَنِي جِوَارَ نِعَمِ اللَّهِ , فَإِنَّهَا مَا نَفَرَتْ عَنْ قَوْمٍ فَعَادَتْ إلَيْهِمْ " وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي سُكَيْنَةَ , وَهُوَ , وَالْبَزَّارُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ حَرَامٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أَكْرِمُوا الْخُبْزَ " زَادَ أَبُو سُكَيْنَةَ " , فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْرَمَهُ , فَمَنْ أَكْرَمَ الْخُبْزَ أَكْرَمَهُ اللَّهُ " زَادَ عَبْدُ اللَّهِ , فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَسَخَّرَ لَهُ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ , وَمَنْ تَتَبَّعَ مَا يَسْقُطُ مِنْ السُّفْرَةِ غُفِرَ لَهُ قُلْت: أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَبُرَيْدَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ أُمِّ حَرَامٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ وَتَعَقَّبَهُ الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ بِأَنَّ الْحَاكِمَ أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَصَحَّحَهُ وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ , وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ . وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي سُكَيْنَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ , وَقَالَ ابْنُ الديبع تِلْمِيذُ الْحَافِظِ السَّخَاوِيِّ فِي كِتَابِهِ التَّمْيِيزِ: حَدِيثُ " أَكْرِمُوا الْخُبْزَ " لَهُ طُرُقٌ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ مُضْطَرِبَةٌ , وَبَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ فِي الضَّعْفِ . قَالَ شَيْخُنَا: وَلَا يَتَهَيَّأُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ لَا سِيَّمَا وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ لِلْحَاكِمِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أَكْرِمُوا الْخُبْزَ " انْتَهَى (لَطِيفَةٌ) أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ وَذَكَرَهُ الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ فِي تَارِيخِ الْخُلَفَاءِ عَنْ هَدِيَّةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: حَضَرْت عِنْدَ الْمَأْمُونِ فَلَمَّا رُفِعَتْ الْمَائِدَةُ جَعَلْت أَلْتَقِطُ مَا فِي الْأَرْضِ فَنَظَرَ إلَيَّ الْمَأْمُونُ فَقَالَ: أَمَا شَبِعْت؟ قُلْت بَلَى وَلَكِنِّي حَدَّثَنِي حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " مَنْ أَكَلَ مَا تَحْتَ مَائِدَتِهِ أَمِنَ مِنْ الْفَقْرِ " فَأَمَرَ لِي بِأَلْفِ دِينَارٍ
وَإِلْقَاءِ مَا يُخْرِجُهُ الْخِلَالُ مِنْ الْخُلَالَةِ وَتَخْلِيلُ مَا بَيْنَ الْمَوَاضِعِ بَعْدَهُ وَأَلْقِ وَجَانِبْ مَا نَهَى اللَّهُ تَهْتَدِ (وَ) يَحْسُنُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَكْلِ (تَخْلِيلُ مَا) أَيْ بَقَايَا الطَّعَامِ الْكَائِنِ (بَيْنَ الْمَوَاضِعِ) مِنْ أَسْنَانِهِ فَيُسْتَحَبُّ تَتَبُّعُ ذَلِكَ بِالْخِلَالِ وَإِخْرَاجُهُ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ (بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ الْأَكْلِ , وَالْفَرَاغِ مِنْهُ . قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَالْخِلَالُ نَافِعٌ لِلِّثَةِ , وَالْأَسْنَانِ حَافِظٌ لِصِحَّتِهَا نَافِعٌ مِنْ تَغَيُّرِ النَّكْهَةِ قَالَ: وَأَجْوَدُ مَا اُتُّخِذَ مِنْ عِيدَانِ الْأَخِلَّةِ وَخَشَبِ الزَّيْتُونِ , وَالْخِلَافِ انْتَهَى , وَقَالَ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ: يُكْرَهُ التَّخَلُّلُ عَلَى الطَّعَامِ وَلَا يُخَلَّلُ بِقَصَبٍ وَلَا رُمَّانٍ وَلَا رَيْحَانٍ وَلَا طَرْفَاءَ وَنَحْوِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مُضِرٌّ . وَفِي آدَابِ ابْنِ مُفْلِحٍ: وَيُخَلِّلُ أَسْنَانَهُ يَعْنِي بَعْدَ الْأَكْلِ إنْ عَلِقَ بِهَا شَيْءٌ . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: " تَرْكُ الْخِلَالِ يُوهِنُ الْأَسْنَانَ , وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ . وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ وَاصِلِ بْنِ السَّائِبِ , وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ مَرْفُوعًا " حَبَّذَا الْمُتَخَلِّلُونَ مِنْ الطَّعَامِ وَتَخَلَّلُوا مِنْ الطَّعَامِ , فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَشَدُّ عَلَى الْمَلَكِ الَّذِي عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَجِدَ مِنْ أَحَدِكُمْ رِيحَ الطَّعَامِ " وَفِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ وَرَدَ فِي الْخِلَالِ حَدِيثَانِ لَمْ يَصِحَّا وَذَكَرَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَالَ علي الْقَارِئُ: حَدِيثُ " حَبَّذَا الْمُتَخَلِّلُونَ مِنْ أُمَّتِي " قَالَ الصغاني وَضْعُهُ ظَاهِرٌ وَفَسَّرَهُ بِتَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ فِي الْوُضُوءِ وَبِالتَّخْلِيلِ بَعْدَ الطَّعَامِ وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِنْعَامِ (وَأَلْقِ) مَا يُخْرِجُهُ الْخِلَالُ مِنْ الْخُلَالَةِ كَثُمَامَةٍ يَعْنِي بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ . وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا " مَنْ أَكَلَ فَمَا تَخَلَّلَ فَلْيَلْفِظْهُ , وَمَنْ لَاكَ بِلِسَانِهِ فَلْيَبْتَلِعْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ , وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ " فَيُكْرَهُ ابْتِلَاعُ مَا يُخْرِجُهُ الْخِلَالُ لَا مَا يُخْرِجُ بِاللِّسَانِ وَعُمُومُ إطْلَاقِهِمْ , وَلَوْ مُنْتِنًا وَلَعَلَّهُ يُكْرَهُ عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ فِي الْإِقْنَاعِ مِنْ كَرَاهَةِ أَكْلِ اللَّحْمِ الْمُنْتِنِ خِلَافًا لِلْمُنْتَهَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . (وَجَانِبِ) فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ لَا سِيَّمَا فِي الْمَأْكُولَاتِ (مَا) أَيْ الشَّيْءَ الَّذِي (نَهَى اللَّهُ) جَلَّ شَأْنُهُ وَتَعَالَى سُلْطَانُهُ عَنْ إتْيَانِهِ فَلَا تَأْتِهِ ; لِأَنَّهُ مَا نَهَى عَنْهُ سُبْحَانَهُ إلَّا لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَضَرَّةِ فِي الْبَدَنِ , أَوْ الدِّينِ , أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ أَنْتَ فَعَلْت ذَلِكَ مِنْ الْمُجَانَبَةِ لِمَا نَهَى اللَّهُ (تَهْتَدِ) لِطُرُقِ الْخَيْرَاتِ , وَتَنْجُ مِنْ الْمُوبِقَاتِ . وَتَسْلَمُ مِنْ الْعَذَابِ . وَتَخْلُصْ مِنْ الْعِقَابِ . وَكَأَنَّ النَّاظِمَ رحمه الله أَشَارَ بِهَذِهِ التَّكْمِلَةِ إلَى مُجَانَبَةِ نَحْوِ الْخُمُورِ , أَوْ مُجَالَسَةِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ , أَوْ الْجُلُوسِ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ , أَوْ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ فَتَكُونُ تَكْمِلَةً لِلْبَيْتِ , وَهِيَ مِنْ الْحَشْوِ اللَّذِيذِ . إذْ هِيَ أَلَذُّ عَلَى قُلُوبِ أَهْلِ التَّقْوَى مِنْ اللَّحْمِ الْحَنِيذِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
|